لقد سعى حزب البعث، منذ بواكير ظهوره، إلى مخاطبة عواطف الجماهير العربية، مستثيرًا مكامن الوجدان، ولاعبًا على الأوتار الحساسة برفع شعارات رنانة تطرب لها آذان الفقراء الذين خرجوا لتوّهم من ظلمات الاستعمار، وقد أحسن استثمار لحظة الضعف تلك، فساقهم خلف الخطاب القومي، موهمًا إيّاهم بأنه الطليعة الساعية لإعادة الحكم إلى البيت العربي.
ولم يتوقف الحزب عند حدود العاطفة، بل قرأ بعناية المشهد الاجتماعي المأزوم آنذاك، حيث اتسعت الفجوة بين الإقطاع المتسلط وجموع المعدمين، فرفع لواء الاشتراكية، بادّعاء السعي إلى كسر قيود الإقطاع، وإنصاف الفلاحين وسائر الطبقات الكادحة، وانتشالهم من براثن الفقر والتهميش.
ثم انتقل الخطاب البعثي إلى القضية الكبرى التي اجتمع حولها وجدان العرب والمسلمين: فلسطين؛ فارتفع صوته متوعدًا بالنزال مع النفوذ الغربي والصهيوني، واستثمر النكبة التي ألمّت بالمنطقة عام 1948، ليقدم نفسه بوصفه المشروع الأوحد القادر على استعادة الحق المغتصب، والرافعة التي تعلّقت بها آمال الشعوب المقهورة.
بيد أن شعارات الحزب، ما لبثت أن انكشفت عن وجه مغاير، بعدما اعتلى السلطة عبر سلسلة من الانقلابات العسكرية؛ إذ قلب ظهر المجن، وخلع عن نفسه قناع التحرر، ليكشف عن وجهه الحقيقي المتمثل في ديكتاتورية طاحنة، وطائفية بغيضة، لا تأبه لغير ترسيخ سلطانها.
فأما الوحدة، التي رفعها راية وشعارًا، فقد بقيت حبيسة الهتافات، لم تتجاوز أسوار المنابر، وسرعان ما انحسر الأفق القومي إلى نزعة قطرية ضيقة؛ فانكفأت سوريا على ذاتها، بل دخلت في صراعات معلنة مع دول عربية شقيقة، كالعراق والأردن، وأضحت الوحدة مجرّد ذريعة للتسويغ، لا غاية للتحقيق.
وأما الحرية، التي طالما بشّر بها، فكانت أولى الضحايا التي ذُبحت على أعتاب السلطة؛ إذ لم تحتمل الدولة رأيًا معارضًا، ولا صوتًا ناقدًا، فتحولت البلاد إلى سجن كبير تحكمه قبضة أمنية فولاذية، وأُحكمت الرقابة على الأنفاس قبل الكلمات، حتى غدا المواطن يخشى خطاه، ويصطنع الصمت درعًا، فرارًا من قسوة العواقب، وأيّ حرية يُرجى من دولة تزدحم سجونها بأصحاب الرأي، وتغصّ منافيها بالهاربين من سياط البطش؟
وأما الاشتراكية، فقد تحولت إلى وسيلة لتمكين النخبة الحاكمة من مقدرات البلاد، ومصادرة ما تبقّى من الحريات الاقتصادية، حتى عمّ الفقر، وضاق العيش، وانقسم المجتمع إلى طبقات جديدة متسلقة، هيمنت على ثروات الدولة تحت راية الاشتراكية، بينما بقيت الجماهير تغرق في لجج الفاقة والحرمان.
لقد قدّم حزب البعث مثالًا حيًا على كيف يمكن للشعارات، مهما بدت براقة، أن تتحول من أدوات للتحرر والتقدم إلى ذرائع للاستبداد والقهر، فالأمم لا تنهض بالكلمات الرنانة، بل ترتقي بالسياسات الرشيدة، والأنظمة التي تصون الحقوق، وتصدق الوعد، وتضع مصلحة الشعوب فوق نزوات السلطة.
ولعل في تجربة البعث عبرة بليغة، جديرة بأن تُتخذ درسًا للحاكم والمحكوم على السواء، علّ المستقبل يحفظ للشعارات معناها، ولا يتركها حبرًا على ورق.