قرأتُ ذات مرة أنّ الرجال يمتلكون بطبعهم وتكوينهم الجيني، حساسيةً غريزية تجاه أصوات الحيوانات. ولعلّ ذلك عائدٌ إلى أدوارهم التاريخية في العصور الغابرة، بل حتى إلى زمنٍ قريب، أو مُعاصرٍ في بعض الحالات. ذلك كونَ الرجال حماة الجماعة الأوائل من المخاطر، خطّ الدفاع الأول المستبسل، خاصة من تلك الشرور القادمة من الوحوش الضارية. فبفضل أجساد الرجال وقدراتهم الفطرية على التحمّل والمجابهة والمحاربة، كانوا منذ أزلهم يقفون على ثغور الطبيعة، يذودون عن المأوى ويصدّون هجمات البراري. لم تسنح لي الفرصة مع الأسف لاختبار هذه الفرضية العلمية في واقعٍ مادّي، إذ أنّ المدن الحديثة بطبيعتها تخلو من الحيوانات المفترسة.
ولكن غياب الحيوانات لم يعنِ زوال الوحوش أو الخطر. فبعض الوحوش لا تزأر، بل تتكلم. منها من يسير على قدمين، لا أربع، يكتسي بذلات أنيقة، لا جلود وحراشف، يتواصل بلغة العقل، لا العواء، لكنه لا يلبث أن يكشّر عن أنيابه عند أول فرصة. وحوشٌ تتقن التنكّر، منها الكبير والصغير، العاقل والمختل، المتحضر والبدائي. الفردي والجماعي. تطوّرت أشكالها وأنواعها، لكن غريزتها وبوصلتها بقيت على حالها: الفتك عند المقدرة.
وحين نُمعن النظر في واقع مجتمعنا السوريّ اليوم ونُجري بعض الإسقاطات الطريفة، نجد أنفسنا محاطين بهذه الوحوش من كل الجهات. تترصّدنا تارةً وتطبق أنيابها بجثثنا تاراتٍ أخرى. تراها شبه جاثمةٌ على صدورنا، لا تنتظر إلا لحظة الغفلة لتنقضّ. المشهد، برغم قسوته، يبدو سرياليًا في تناقضه صراحةً: فتلك الوحوش تملك الغلبة كيفما نظرنا للأمر، لا بإحكامٍ بل بتصرّف. ومع ذلك، تتسمّر تلك الضواري في صيدها بقلق، كما لو أنّ انتصارها يجذبها ولا يقنعها، يكتمل شكلياً ولا يرضيها جوهرياً.
في مركز هذا المشهد السريالي، يقبع مجتمعنا كفهدٍ جريح، أنهكته المعارك وأرهقته حروب الاستنفاذ المستمرّة. تنهال عليه الضباع في لحظة الغفلة من كل حدبٍ وصوبٍ. زعيمهم يقبض على عنق الفهد، وصغارهم ينهشون سائر الجسد. ورغم القيود والنصر اللحظي، لا تزال في صدر الفهد أنفاس لم تُخمد بعد، ورغبةٌ مشتعلة بالنهوض.
بالعودة للواقع وتعقيداته، يمكننا الاتّفاق بأنه لا يمكن بهكذا موضع للحل أن يكون إذاً بالبدأ بإصلاحاتٍ ناعمة أو بحواراتٍ مثمرة أو تفاوضات عقلانية، بل قطعاً بالخلاص من براثن الوحوش، وسحقاً لأعمال دهان تجميلية في عمارةٍ تتداعى وإلى السقوط هي آيلة. ومن هذا وذاك، وفي ضوء ما تقدّم، نستنتج الخلاصة: علينا، كمجتمع أن نحتفظ بسلّم الأولويات بحق الله! أن نتحرر من قبضة الوحوش وبراثنها المطبقة، أن نداوي جراحنا بالتوازي مع تفعيل خوارزمية صمود شاملة ضد عدوٍ غادر. وأخيرًا، أن نقوم بدراسة الميدان وتحليل أبعاده والعمل بمقتضى النتائج والأوضاع الراهنة. ففي ظروفٍ استثنائية كهذه، حيث تُنتهك حدود المألوف وتتصدّع معايير المنطق والكلاسيكيات، لا تكون النجاة في التوازنات والتفاهمات، بل في التطرّف النبيل والشذوذ الخلّاق. ولنا في بديهيات بعض أعمالنا وروتيننا اليوميّ عبرة. فكثيرةٌ هي المرّات، حينما يُصبح تعطيل المنطق وتمكين غرائز البقاء ضرورة، لا خيارًا. كالإطفائي مثلاً، يركض خلال عمله نحو النيران، ضارباً بغرائز نجاته عرض الحائط، منافياً للمنطق، مطبقّاً له بذات الوقت!