من مفارقات العصر الحديث
من أبرز مفارقات العصر الحديث أن ازدياد النزعة الليبرالية والفردانية في المجتمعات لا يؤدي إلى اتساع مساحة الحرية كما يُروّج، بل إلى الحاجة المتزايدة إلى تدخل الدولة وتشديد التقنين القانوني على الأفراد والمجتمع.
ففي المجتمعات التقليدية، حيث الإيمان بمرجعيات متجاوزة للفرد كالدين، والأخلاق، والمجتمع، والله، نجد أن الإنسان يحمل بداخله بوصلة أخلاقية توجه سلوكه، وتحدد ما يجوز وما لا يجوز، دون الحاجة إلى تدخل دائم من الدولة أو القانون. أما في المجتمعات الفردانية الليبرالية، فهذه البوصلة الداخلية تتآكل تدريجيًا، حتى تكاد تختفي، مما يدفع الدولة إلى التدخل لسد هذا الفراغ الأخلاقي عبر سن قوانين جديدة، وتشديد العقوبات، ومتابعة الأفراد في تفاصيل حياتهم اليومية.
ولا يعني هذا أن الأفراد في المجتمعات الليبرالية بالضرورة بلا أخلاق، ولكن الفكرة أن القيود الداخلية لديهم أقل بكثير من تلك التي يحملها أفراد المجتمعات التقليدية. ولهذا السبب، تتطلب المجتمعات الفردانية رقابة قانونية أكبر، وعقوبات أشد، وتشديدًا مستمرًا من جانب الدولة لضبط السلوك.
كذلك لا نقول إن المجتمعات التقليدية لا تحتاج إلى قوانين أو أن العقوبات أمر غير ضروري، ولكن الواقع يبين أن المجتمعات الليبرالية بحاجة أشد لهذه الوسائل، لأنها فقدت الوسائط الداخلية التي كانت تقوّم الإنسان من داخله، كالضمير الجمعي، والدين، والحشمة، والشعور بالانتماء.
وهنا تتكشف المفارقة الكبرى: الليبرالية والفردانية ترفع شعار تحرير الإنسان، لكنها في واقع الأمر تقيده بمنظومة قانونية أكثر تشددًا، بحجة الحفاظ على تلك الحرية ذاتها. في حين أن المجتمعات التقليدية، رغم قيودها، تمنح الإنسان حرية داخلية تنبع من ذاته، من ضميره، ومن شعوره بالمسؤولية تجاه أسرته ومجتمعه ودينه.
فكلا النموذجين – الليبرالي والتقليدي – يفرض قيودًا، لكن الفارق الجوهري أن المجتمعات التقليدية تغذي البعد الأخلاقي والروحي في الإنسان، بينما تعتمد المجتمعات الفردانية على التخويف والعقاب كوسيلة وحيدة للضبط، عبر القانون والسجن والغرامات.
وهنا يظهر السؤال الفلسفي العميق: أيهما أرقى إنسانيًا؟ مجتمع يعاملك على أنك كائن أخلاقي فيه خير وشر ويثق بأن في داخلك رقيبًا ذاتيًا؟ أم مجتمع يتعامل معك كمن لا يُضبط إلا بالعصا والخوف؟
في المجتمعات الليبرالية، تُفرض القيود باسم الحرية، ويُسلب الإنسان حريته العقلية والروحية باسم الفردانية. يُوضع في سجن قانوني دقيق، ثم يُقال له: “أنت حر!” ولأجل الحفاظ على هذه “الحرية”، تُفرض عليه المزيد من القوانين التي تملي عليه سلوكياته وحركاته ضمن حدود هذا السجن.