مقال ياسين الحاج صالح الأخير في الجمهورية يمثل نموذج للخطاب الرمادي الذي يخلط بين الجلاد والضحية، ويهرب من تحميل المسؤولية، مما يجعله نوع من التواطئ، حتى لو كتب بنية "التحليل السياسي". هذا الخطاب الرمادي يعيد إنتاج الضبابية بدل أن يبددها، والتي يفترض أنها من أولويات مهام المثقف. الوقائع اليوم واضحة جدا والجريمة والجاني واضحين، وأضعف الإيمان من المثقف هو تسمية الأشياء بمسمياتها، وهو ما لا نجده في هذا المقال.
أولا: توصيف "حالة حرب الجميع ضد الجميع"
هذا التوصيف يعكس تشويشًا مفاهيميًا وتزييفًا للواقع السوري الراهن. نحن لا نعيش في سياق "حرب الجميع ضد الجميع"، بل هناك منظومة أصولية مسلحة ذات هيكل هرمي واضح تقوده هيئة تحرير الشام وعلى رأسها أبو محمد الجو@لاني، تمارس الإذلال والقمع والإبادة المنظمة للأقليات وإقصائهم من الشأن العام والحكم والمساحات العامة، بطريقة ممنهجة. مصطلح "الجميع ضد الجميع" يساوي بين الضحية والجلاد، ويمحو مسؤولية الفاعلين المركزيين عن الجرائم الجارية.
ثانيا: "سورية ما بعد الأسدية"
يوحي هذا التوصيف بتحول تاريخي نوعي، بينما ما جرى هو تبديل قشرة النظام لا بنيته. حكم الجو@لاني وهيئة تحرير الشام ليس خروجًا من الأسدية بل امتدادًا لها في نموذج أشد قسوة وتوحشًا. فالمشروع الجهادي الذي يهيمن اليوم يعيد إنتاج منطق البعث والأسد من موقع طائفي-ديني، لا قومي-بعثي. ما نعيشه ليس "ما بعد الأسدية"، بل أسدية همجية في زي ديني عنيف.
ثالثا: "نزع سلاح الجماعات الجهادية المستقلة: "هل الجو@لاني عاجز عن ضبط ميليشياته أم متواطئ معها؟"
الدعوة لنزع سلاح الجماعات الجهادية المستقلة تتجاهل حقيقة بنيوية: هيئة تحرير الشام ليست فقط راعية للجماعات الجهادية المتطرفة، بل هي التعبير المؤسسي عنها. فكيف يمكن أن نتوقع أو نتكلم عن قيامها بهكذا خطوات؟ الحقيقة أن العكس هو ما يحصل: تمّ دمج قادة الفصائل الأكثر وحشية في جهاز الدولة العسكرية الجديدة (أبو عمشة، أبو حاتم شقرا، وآخرون) ومنحهم رتبًا ومناصب. هذا ليس فشلًا في "ضبط الجماعات"، بل هو تنظيم منهجي لها في بنية الحكم. دعونا لا ننسى أيضا أن الجو@لاني هو نفسه قائد لمجموعة مسلحة دينية متطرفة.
أما الجهاديون الأجانب، فالجولاني لم يكتف بحمايتهم، بل دافع عنهم صراحة، وصرح بأنه يسعى لتجنيسهم ودمجهم. من وجهة نظره قد يكون الجهاديون الأجانب ركيزة القوة الضاربة لنظامه بسبب أنهم أجانب ولا يملكون ارتباطًا بسكان سوريا أو بالبلد. الحديث عن خطرهم كمشكلة تحتاج "عقلنة سياسية" هو تجاهل للواقع: هم ليسوا مشكلة خارجة عن السيطرة، بل أداة مركزية في مشروع السيطرة.
هذا سؤال زائف، لأن الجواب لم يعد محل نقاش: تواطؤ الجو@لاني أصبح واضحا ومنظما. منح المجرمين مناصب رسمية لا يُفهم إلا كتأييد مباشر لجرائمهم، وتبني العنف كسياسة ممنهجة. طرح السؤال بهذا الشكل يُضفي ضبابية على واقع واضح وضوح الشمس، ويجعل من المسئولية موضع نقاش بدل أن يعاملها كحقيقة.
رابعا: "العقلانية السياسية"
افتراض وجود "فاعل عقلاني" ضمن هيئة تحرير الشام أو الفصائل السلفية هو خطأ منهجي وخطر سياسي. المشروع الذي تمثّله هذه الجماعات ليس عقلانيًا ولا وطنيًا، بل ديني-شمولي يهدف إلى إقامة نظام قائم على التطهير العرقي والطائفي، كما أظهرت المجازر بحق العلويين والدروز، والدعوات العلنية لإبادتهم. دعوة هذه السلطة إلى "نزع سلاح مقابل مشاركة سياسية" تعني التطبيع مع الفاشية الجهادية، والاعتراف بها كشريك شرعي. لا يمكن أن يكون هناك عقد اجتماعي مع من يرتكب جرائم إبادة.
خامسا: "هل 'نحن' سائرون باتجاه تعددي وأقل عنفا؟ المؤشرات التي لا تبعث للتفاؤل"
الحاج صالح يعترف في نهاية المقال أن المؤشرات من الخمسة أشهر الماضية لا تشير إلى أننا نسير باتجاه الحل الذي يتكلم عنه، إن كانت المؤشرات الواقعية خلال الأشهر الماضية لا تشير إلى أي انتقال نحو تقليل العنف أو تعزيز الكرامة كما يقول الحاج صالح نفسه، فإن الخطاب الذي يُركّب أمنيات مجردة فوق وقائع الإبادة هو خطاب مفصول عن الواقع.
كما أن استخدام الضمير الجمعي عندما يقول "نحن" دون تحديد الفاعل المسؤول عن التدهور والمجازر (وهو هيئة تحرير الشام والجو@لاني) يُنتج لغة معقمة تتجاهل المسؤولية السياسية والأخلاقية، ويثير ضبابية كبيرة ويعفي الطرف المسؤول من مسؤوليته.
ـ********
المقال مليئ بالتعميم الأخلاقي، والتجريد السياسي، والمراوغة اللغوية، التي أصبحت اليوم في ظل وضوح الواقع والجريمة والجاني نوع من التواطؤ مع السلطة. ما هو مطلوب من المثقف اليوم هو الوضوح الأخلاقي الصارم والوضوح المفهومي الحاد، يجب تسمية الجريمة ومرتكبها، ورفض أي تسوية تعيد تدوير القتلة.