في أيام المدرسة، كان لافتا اجتماع زميلاتنا من الجالية المصرية كل يوم جمعة في واحدة من أكبر الحدائق المحلية. هذا اللقاء الأسبوعي كان يثير التساؤلات بداخلي: كيف يجتمعن رغم اختلافاتهن في كل شي حتى الانتماءات الدينية والسياسية؟ لماذا يجتمعن خارج المدرسة، بعائلاتهن، بينما نحن السوريين لا نفعل؟ هذا السؤال دفعني للبحث والتحري، بل لسؤال الأجداد ووالدتي أيضاً، إذ كنت أعيش شعور التيه، بهوية سورية مشوشة. لم نكن نشبه السوريين عند زيارتنا لسوريا، ولا أهل البلد الذي نعيش فيه. كنا دومًا نمثل "ثقافة ثالثة".
هذا البحث المستمر قادني لسؤال أعمق: "لماذا؟"، وإن كان هذا السؤال وجوابه لم يعودا محوريين بعد انهيار نظام الطائفة الأسدية. الأهم الآن أن نعيد تعريف أنفسنا بوضوح: من نحن؟ ما صورتنا الذهنية كـ"سوريين"؟ وما الهالة التي تحيط بكلمة "سوريا" في الوعي الجمعي؟
يعرف الجميع - حتى الذكاء الصناعي - أن الشعب السوري بإختلاف الأديان مجتمع محافظ يجمع التناقضات اليشرية لنكون نحن نحن. فأخلاقيا نحن كرماء ونصابين، مرنون وعنيدون أحيانا. تهمنا السمعة كثيرا وننتخي لبعضنا كما نحترم الكبار.
أما في المطبخ، فنعتمد على أطباق تقليدية متوازنة غذائيًا، ما يجعل مطبخنا من بين الأصح – والألذ – في العالم. يسمى بمطبخ البحر الأبيض المتوسط أو المطبخ الشامي، وهو غني بالنكهات والدهون والخضراوات الأصيلة.
صحيًا، تنتشر بيننا بعض الأمراض مثل الوردية الجلدية والإلتهابات الكبدية والتهابات الجهاز الهضمي. كما نصنَّف في بعض الاختبارات النفسية كـ"بصريين تمثيليين"؛ أصواتنا عالية، وحساسيتنا العاطفية أقل من بعض الشعوب العربية الأخرى. خُلقنا الله بملامح جميلة، ومعايير الجمال عند السوريين تُختزل أحيانًا بتصنيفات جائرة كـ"رز ببازلاء" و"مجدرة". بالمناسبة، نحن نمارس ظلمًا كبيرًا على بعضنا عندما يمتلك أحدنا سلطة على الآخر. حتى أن محامية عربية أخبرتني أن أغلب القضايا الأسرية التي عالجتها لسوريين كانت بسبب صراع "أم الزوج والكنة".
يُعرف السوريون بأنهم نظيفون بشكل مفرط. وجود ملعقة شاي غير مغسولة قد يُعدّ كارثة. لدينا وهم الكمال وحب المثالية، حتى أن وسواس النظافة يُعدّ أمرًا طبيعيًا لدينا، لدرجة أن اللجوء السوري إلى الأردن زاد من حالات الوسواس القهري لدى الأردنيات – بحسب الدكتور عبد الرحمن ذاكر.
اجتماعيًا، رجالنا رجال ونساؤنا نساء. لم تطلنا بعد موجات التطرف على أساس الجنس، ونأمل ألا تطالنا. وعلى الرغم من وجود قوانين تحفظ الحقوق المدنية منذ زمن، فإن التطبيق لا يزال يعاني من قصور، نتيجة عوامل فكرية وظروف مجتمعية. رجالنا قساة، صقلتهم الظروف الصعبة والطبيعة القاسية. وتهمهم التكتلات العائلية الممتدة وضغطها.
نحن شعب متنوع، لكننا لسنا متناغمين. لا وجود لفسيفساء حقيقية، بل تعايش هش نتج عن الصمت والتغاضي، ويهدد بالانفجار في أي لحظة بفعل الظلم الداخلي. الطائفة الأسدية دمرت البلاد والعباد طوال ستة عقود حتى بلغ الاحتقان ذروته. لا أدري كيف استمررنا، لكننا شعب مولع بالنقد والتقييم، وظلمنا بعضنا بعضًا حتى صار الغضب مطبعًا ومكبوتًا. نحن قلقون، متعجلون، وهي صفات ورثناها من أثر الأسديين لعقود. نمارس التمييز المناطقي، ولا ننسى التفرقة بين من هم "جوا السور" و"برا السور".
ماليًا، لا نملك ثقافة مالية جيدة. نعيش على مبدأ "اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب". انتشرت فكرة "الجمعيات" المالية لتواكب ظروفنا، لكنها تبقى ديونًا في النهاية. كثيرون يملكون أصولًا كبيرة، لكنهم لا يعيشون حياة تتكافأ معها. أما مشاكل المواريث، فهي قصة أخرى... متوارثة كذلك. سافر الأجداد طلبا للرزق ثم صار المغتربون المصدر المالي الأساسي للكثير من العوائل في سوريا الوطن.
ومع كل هذا، نحن شعب عصامي، عزيز، يحب العلم ولا يستسلم للتحديات. ننمو من تحت الركام والصدمات (Post-traumatic growth). التعليم الذاتي شائع بيننا، ونبدع في المجال الأكاديمي.إلا أننا لم نُمحُ الجهل تمامًا بعد، ولا تزال أعداد المتسربين من المدارس إلى سوق العمل أو الشحاذة مرتفعة. اقتصادنا يعتمد على الحرف والمنتجات لا على الخدمات فقد تجد مهندس كهرباء يعمل كهربائيا وسباكا. وثقافة "اصنعها بنفسك" متجذرة فينا، فلا نرمي شيئًا مهما صغر شأنه... فربما نحتاجه لاحقًا!
نحب الحياة على بساطتها، ونسهر لو على كأس شاي. فعليًا، نستيقظ متأخرين مقارنة بشعوب أخرى. حتى إنني سمعت أن مدن الجنوب التركي بدأت تسهر أكثر بعد نزوح السوريين إليها. نحن شعب يملك ثقافة إنسانية غير مدونة، مهددة بالضياع، كالتطريز الشعبي، والأناشيد الموروثة لكل قبيلة أو قومية. عرقيًا، نحن شديدو الاختلاط، فلا وجود لما يمكن تسميته بـ"السوري الأزرق".
كنا شعبا خوافا ينادي: "اليد الي ما بتحسن تقطعها بوسها ودعي عليها بالكسر" حتى صرنا نردد اليوم: "أنا لا أستطيع تقبيل يد قطعها أجمل من تلك القبل"
أما الآن فأسألك أنت من هي سوريا؟ ومن هم السوريون؟ وهل سيكون أبنائنا قادرين يوما على إجابة سؤال: من نحن؟ دون أن يرتبكوا؟
أ نملك اليوم الشجاعة الكافية لننظر في المرآة، ونسأل أنفسنا بصدق: أي سوريين نريد أن نكون؟