جيش الأسد: هل ذُبح السُنة على يد "جيش ذو أغلبية سنية"؟
منذ سقوط نظام الأسد، بدأت بعض الأصوات بمحاولة إعادة رسم حقيقة ما جرى في سوريا، مدعيةً أن جيش النظام كان بغالبيته من السُّنَّة، بل ذهب البعض إلى حد الزعم بأن بشار الأسد نفسه كان سُنِّيًا!
ورغم أن الوقائع الميدانية وشهادات الضحايا كافية لنسف هذه المزاعم، فقد ارتأيت في هذا المقال أن أبتعد عن السرد العاطفي، وأن أعتمد فقط على المصادر العلمية والبحوث الأكاديمية المثبتة، لتفنيد هذه الادعاءات بالحجج الدامغة والأرقام الموثقة، عبر تحليل هيكلية الجيش السوري خلال حكم كلٍّ من الأسد الأب والابن.
فالحقيقة التي تحاول بعض الأطراف طمسها واضحة لكل من يتتبع التاريخ بالأدلة: أن الجيش لم يكن جيش وطن، بل كان منذ عقود أداة طائفية في يد نظام أقلوي حكم سوريا بالحديد والنار.
التأسيس الطائفي المبكر (1920–1963)
لا بد من العودة إلى الجذور لفهم كيفية تشكُّل هذا الخلل الطائفي في الجيش السوري. فقد بدأ الأمر منذ فترة الانتداب الفرنسي، حيث اعتمدت سلطات الاحتلال سياسة “تجنيد الأقليات” ضمن القوات الخاصة السورية (Troupes Spéciales)، كما يوضح المؤرخ والباحث "حنا بطاطو" (Hanna Batatu)، في كتابه الشهير "فلاحي سوريا وأحفاد نخبها الريفية" (Syria’s Peasantry, the Descendants of Its Lesser Rural Notable):
من العوامل التي كثيرًا ما تُذكر في هذا السياق السياسة التي اتبعتها فرنسا من عام 1921 إلى 1945، حيث كانت خمسة من أصل ثمانية كتائب مشاة ضمن القوات الخاصة في سوريا تتألف في الغالب من أبناء الأقليات، مثل العلويين والدروز والإسماعيليين.
One factor that is frequently brought up in this connection is the minority-oriented policy pursued by the French from 1921 to 1945. It is indeed true that out of the eight infantry battalions in the Troupes Spéciales serving in Syria, five were largely composed of members of the minority groups: Alawis, Druzes, and Ismailis.
وقد أسس هذا التوجه الاستعماري لانحياز هيكلي طويل الأمد داخل الجيش السوري، توج لاحقًا مع صعود النظام البعثي ثم استحواذ الأسد على السلطة.
ومع تراكم هذا الانحياز البنيوي، بدأ يظهر بوضوح في تركيبة الجيش خلال العقود اللاحقة، لا سيما في خمسينيات القرن الماضي. فقد وثق بطاطو حادثة مفصلية حدثت في عام 1955:
في عام 1955، وبعد اغتيال نائب رئيس الأركان عدنان المالكي على يد الرقيب العلوي يونس عبد الرحيم، اكتشف العقيد عبد الحميد السراج، رئيس مكتب المخابرات العسكرية، بدهشة أن ما لا يقل عن ٥٥٪ من ضباط الصف كانوا ينتمون للطائفة العلوية.
As early as 1955, after the assassination of the deputy chief of staff, ’Adnan al-Maliki, by the ’Alawi sergeant Yunis ’Abd-ur-Rahim, Colonel ’Abd-ul-Hamid as-Sarraj, chief of the Military Intelligence Bureau, discovered to his surprise that no fewer than 55 percent or so of the noncommissioned officers belonged to the ’Alawi sect.
وقد كشفت هذه الحادثة بوضوح مدى تغلغل الطائفة العلوية في الجيش، مما مهد الطريق لتحول الجيش لاحقًا إلى أداة بيد نظام طائفي مغلق.
مرحلة البعث وحافظ الأسد (1963–2000)
مع وصول حزب البعث إلى السلطة، ثم تسلّم حافظ الأسد الحكم عام 1970، تعززت النزعة الطائفية داخل الجيش السوري بشكل منهجي ومدروس.
يذكر بطاطو في كتابه أن حافظ الأسد اختار نخبة قيادات المؤسسة العسكرية والأمنية بعناية:
من بين واحد وثلاثين ضابطًا اختارهم حافظ الأسد بعناية بين عامي 1970 و1997 لشغل المناصب العليا في القوات المسلحة ووحدات النخبة وأجهزة الأمن والاستخبارات، كان تسعة عشر منهم، أو ما نسبته 61.3%، من الطائفة العلوية.
Out of the thirty-one officers whom Asad handpicked between 1970 and 1997 as chief figures in the armed forces, the elite military formations, and the apparatuses of security and intelligence, no fewer than nineteen or 61.3% have been Alawites.
وهذا يعني أن أكثر من ٦٠٪ من أهم المناصب العسكرية والأمنية الحساسة كانت في يد ضباط علويين، رغم أن نسبتهم السكانية لم تكن تتجاوز ١١٪ إلى ١٢٪ فقط من سكان سوريا آنذاك.
بالانتقال إلى تفاصيل أعمق، يؤكد الباحث بوضوح أن الضباط السنة الذين كانوا يشغلون مناصب بارزة (مثل مصطفى طلاس، حكمت الشهابي، وناجي جميل) لم يكن لهم أي قرار مستقل، ولا قوة عسكرية خاصة بهم، بل كانوا يعتمدون بالكامل على حافظ الأسد الذي أبقاهم تحت رقابته الدائمة:
لم يكن لأي من هؤلاء الضباط في أي وقت سلطة اتخاذ قرار حاسم أو مبادرة مستقلة. لقد كانوا يعتمدون بشكل واضح على حافظ الأسد ولم تكن لديهم أي قاعدة عسكرية مستقلة خاصة بهم.
None of these officers has or had at any point the power of crucial decision or independent initiative. They clearly drew their authority from Asad and had no military underpinning of their own.
وهذا ما تدعمه دراسة نشرت في موقع OpenDemocracy بعنوان “The Syrian army and its power pyramid”، حيث جاء:
كان حافظ الأسد يحرص دائمًا على إحاطة نفسه بسنة ذوي مصلحة مباشرة في الحفاظ على استقرار النظام، لكنه كان يبقيهم تحت رقابته الشديدة، مانعًا أي فرصة لاستقلالهم عنه.
He consistently saw to it that he was surrounded by well-placed Sunnis who had a direct interest in maintaining the government’s stability… However, he kept them under his thumb or watched them closely.
ويضيف نفس المصدر أنه حتى أثناء مرضه في عام 1983، حرص الأسد على أن يتولى السلطة مجلس رئاسة مؤقت مكون بالكامل من شخصيات سنية بلا اي نفوذ عسكري:
أنشأ مجلس رئاسة مؤقتًا مكونًا من ستة شخصيات سنية، لثقته بأنهم لن يستطيعوا الانقلاب عليه لعدم سيطرتهم على القوات المسلحة.
He created a six-man presidium, all of whose members were Sunnis, because he knew they could never envisage turning against him, since they did not control the armed forces.
كما كشف بطاطو أن حافظ الأسد كان حريصًا على إحكام السيطرة الأمنية على الضباط السنة أنفسهم؛ ففي حين كان ناجي جميل قائدًا لسلاح الجو اسميًا، إلا أنه لم يكن بإمكان أي طائرة أن تقلع من أي مطار عسكري دون علم المخابرات الجوية التي كان يرأسها العلوي محمد الخولي:
لم يكن بإمكان أي طائرة قتالية أن تقلع من أي مطار عسكري دون علم عملاء العلوي محمد الخولي، رئيس إدارة المخابرات الجوية ورئيس لجنة الاستخبارات الرئاسية.
No combat aircraft could take off from any military airfield without the knowledge of agents of the ’Alawite Muhammad al-Khuli, chief of Air Force Intelligence and chairman of the Presidential Intelligence Committee.
كما كانت وحدات النخبة (قوات الدفاع، منظومات الصواريخ، وقوات الدفاع الجوي) تحت قيادة شخصيات علوية مرتبطة مباشرة بعائلة الأسد:
كانت قوات الكوماندوس والمظليين المنتسبة إلى سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد، شقيق حافظ الأسد، مسؤولة عن حماية قاعدة المزة الجوية الرئيسية… في حين كان العلوي عبد الكريم رزوق يتولى قيادة قوات الصواريخ والدفاع الجوي.
Commandos and paratroopers enrolled in the Defense Companies under Asad’s brother Rif’at guarded Syria’s major air base… the ’Alawite ’Abd-ul-Karim Razzouk controlled the Missile Corps and Air Defense Forces.
ويشير بطاطو إلى أنه بعد نهاية مرحلة “زمن الشدائد” (1976–1982)، تضاءل حتى الوجود الرمزي للسنة في المناصب العسكرية العليا:
بعد ذلك، أصبح الضباط السنة ذوو الرتب العالية يعدّون على الأصابع، مع بعض الاستثناءات النادرة. لا يزال طلاس وزيرًا للدفاع، ولكن مهامه منذ النصف الثاني من السبعينيات أصبحت رمزية إلى حد بعيد.
After that, high-ranking Sunni officers counted, with few exceptions, less and less. Tlas is still defense minister, but his functions have since the second half of the 1970s been largely ceremonial
لم تقتصر سيطرة الطائفة العلوية على الوحدات الخاصة والأجهزة الأمنية فقط، بل امتدت تدريجيًا إلى الجيش النظامي نفسه، كما يظهر بطاطو عبر الأرقام:
بعيدًا عن الوحدات الخاصة المكلفة بحماية النظام، كان العلويون يقودون في عام 1973 فرقتين فقط من أصل خمس فرق عسكرية نظامية. لكن بحلول عام 1985 أصبحوا يقودون ست فرق، وفي عام 1992 باتوا يسيطرون على سبع فرق من أصل تسع.
Apart from the special regime-shielding military formations, Alawite generals commanded in 1973 only two of five regular army divisions, but in 1985 six, and in 1992 seven of nine.
وتؤكد الباحثة إليزابيث تسوركوف (Elizabeth Tsurkov) هذا التحول في دراستها “بين النظام والمتمردين” (Between Regime and Rebels)، حيث تشير إلى أن:
منذ أوائل الثمانينيات، كان العلويون يشكلون ما بين 80 إلى 85٪ من كل دفعة جديدة تتخرج من الأكاديمية العسكرية.
Since the early 1980s, Alawis have made up 80–85 percent of every new cohort graduating from the military academy.
مرحلة بشار الأسد (2000–2011)
رغم أن حافظ الأسد قد رسَّخ البنية الطائفية للجيش السوري، إلا أن ابنه بشار الأسد عمَّق هذا النهج بشكل أكبر، خصوصًا بعد تصاعد التهديدات الداخلية والخارجية ضد نظامه.
يوضح تقرير مركز كارنيجي للدراسات تحت عنوان Brothers in Arms أن الأعراف والشبكات غير الرسمية داخل المؤسسة العسكرية كانت تمنح الأفضلية بشكل منهجي للعلويين:
تعني الأعراف والشبكات غير الرسمية أنه - على الرغم من عدم وجود مبرر قانوني لذلك - يتم إعطاء الأفضلية بشكل منهجي للعلويين. وقد تصاعد هذا التفضيل بشكل كبير في السنوات الأخيرة مقارنةً بالفترة التي سبقت عام 2011، مع نجاح النظام في عسكرة المجتمع العلوي في مواجهة الانتفاضة الشعبية.
Custom and informal networks mean that despite the lack of any legal justification for this, preference is systematically given to Alawites. This phenomenon has exploded in recent years compared with the period before 2011, as the regime has succeeded in militarizing the Alawite community in the face of a popular uprising.
وهذا يثبت أن الولوج إلى الكليات العسكرية وهيئات الضباط لم يكن قائمًا على الكفاءة أو على التمثيل الوطني المتوازن، بل كان موجهاً لتعزيز هيمنة العلويين تحديدًا.
كما يشير التقرير إلى أن أجهزة المخابرات العسكرية لعبت دورًا محوريًا في هذه العملية الانتقائية:
تلعب المخابرات العسكرية دورًا رئيسيًا في عملية القبول، من خلال تقييم أمني لكل متقدم، ولا يتم قبول أي منهم إلا إذا ثبت ولاؤه الكافي للنظام
Military Intelligence plays a key role in the admissions process, through a security assessment of each applicant, none of whom can be accepted unless he or she is found to be sufficiently loyal to the regime.
وبالإضافة إلى التحكم ببوابة القبول، ظل مسار الترقيات داخل المؤسسة العسكرية خاضعًا لهيمنة العلويين، من خلال فرع المخابرات العسكرية 293:
منذ عام 1973، ظلّت المخابرات العسكرية وفرعها 293 تحت قيادة حصرية للعلويين. […] ويلعب فرع 293 دورًا محوريًا في عملية الترقيات ضمن جميع مستويات التسلسل الهرمي العسكري.
Since 1973, Military Intelligence and its Branch 293 have been headed exclusively by Alawites. […] Branch 293 plays a pivotal role in the promotions process throughout the military hierarchy.
وهذا يوضح أن أي ضابط سني - حتى لو بقي داخل الجيش - لم يكن يملك أي أمل حقيقي بالتقدم إلى مناصب مؤثرة.
ومع استمرار هذا النهج، اتخذ بشار الأسد خطوات إضافية لتعزيز هذا الهيكل الطائفي. ففي عام 2019، أصدر قرارًا استثنائيًا يتيح للضباط برتبة عقيد أو أعلى الانضمام إلى هيئة الأركان العامة دون استكمال التدريب الرسمي المطلوب:
في سبتمبر 2019، أصدر بشار الأسد قرارًا يمنح الضباط برتبة عقيد أو أعلى مؤهلات الالتحاق بهيئة الأركان العامة، حتى وإن لم يكونوا قد أتموا التدريب المطلوب.
In September 2019, President Bashar al-Assad issued a ruling awarding officers having the rank of colonel or above with the qualification necessary to join the general staff, even if they had not completed the required training.
ما يعني أن معايير الكفاءة تم التخلي عنها بالكامل لصالح معايير الولاء الطائفي والشخصي.
ويختتم التقرير بوصف دقيق للوضع الناتج عن هذه السياسات:
وقد أدى ذلك إلى الوضع الحالي الذي يشغل فيه أفراد من نفس الطائفة جميع المناصب القيادية داخل الجيش السوري.
This has led to the current situation in which all the leading positions within the Syrian military are held by members of the same sect.
مما يؤكد أن جيش بشار الأسد - تمامًا كجيش أبيه - لم يكن مؤسسة وطنية، بل كان جهازًا طائفيًا مكرسًا لخدمة بقاء العائلة الحاكمة.
في السياق نفسه، تعزز الدراسات الميدانية الحديثة هذه الصورة الطائفية الصارخة للجيش السوري. توضح الباحثة تسوركوف أن السيطرة العلوية على الجيش والأجهزة الأمنية كانت راسخة قبل الثورة بسنوات:
خلال العقد الذي سبق انتفاضة عام 2011، كان حوالي 87٪ من كبار ضباط الجيش السوري، مثل قادة الفرق، من الطائفة العلوية. كما كانت فروع المخابرات المختلفة تخضع لسيطرة وقيادة العلويين، وكذلك جميع الوحدات العسكرية والميليشياوية النخبوية، بما في ذلك الفرقة الرابعة المدرعة، وقوات النمر، والحرس الجمهوري، وسلاح الجو.
Over the decade preceding the 2011 uprising, about 87 percent of high-ranking Syrian Army officers, such as division commanders, were Alawi. The various branches of the Mukhabarat are dominated and commanded by Alawis, as are all the elite military and militia units, including the 4th Mechanized Division, the Tiger Forces, the Republican Guard, and the Air Force.
ويكشف هذا أن العلوية العسكرية لم تكن رد فعل على الثورة، بل كانت بنية مخطط لها منذ سنوات طويلة.
مرحلة الثورة وانكشاف البنية الطائفية (2011–2020)
مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، وبدء انشقاق أعداد متزايدة من الضباط والجنود السنة عن الجيش، ظهرت البنية الطائفية الحقيقية للمؤسسة العسكرية إلى العلن. حيث انكشف أن الجيش لم يكن مؤسسة وطنية جامعة، بل كان في جوهره ميليشيا علوية مصممة لحماية نظام الأسد، وليس لحماية الشعب السوري.
يوثق تقرير مركز عمران للدراسات الاستراتيجية (2020) هذه الحقيقة بالأرقام، حيث يبين:
توصلت هذه الورقة إلى أن من يشغل هذه المراكز الحساسة هم ضباط من الطائفة العلوية، من القائد العام ووزير الدفاع مروراً بقادة الفيالق العسكرية وقادة الفرق وأجهزة الاستخبارات التابعة لوزارة الدفاع.
أي أن السيطرة على أهم المناصب القيادية في الجيش السوري كانت حكرًا على العلويين. بل ويؤكد التقرير أن:
يسيطر العلويون على 100% من أهم 40 منصباً قيادياً في الجيش السوري.
أي لم يكن هناك أي تمثيل حقيقي للسنة أو لأي طائفة أخرى ضمن هيكل القيادة العسكري في سوريا بحلول عام 2020.
ولم تقتصر المسألة على الانتماء الطائفي فقط، بل حتى الجغرافيا كانت عاملًا حاسمًا؛ حيث يذكر التقرير:
ينحدر 79% من قادة الجيش من ثلاث مناطق فقط: القرداحة، جبلة، حمص.
وتكشف هذه المعطيات أن السنة الذين بقوا داخل الجيش خلال الثورة كانوا غالبًا مجندين إلزاميين بلا سلطة حقيقية، خاضعين لهيكل قيادي طائفي مغلق. أما الضباط السنة الذين حاولوا لعب أي دور مستقل، فقد انشق معظمهم خلال السنوات الأولى للثورة. كما يوضح التقرير أن:
ساهمت العلوية العسكرية في بقاء الجيش متماسكاً رغم انشقاقات الضباط السنة.
مما يعني أن النواة الصلبة للنظام العسكري لم تكن سنية قط، بل كانت علوية بالكامل، وأن دور السنة كان هامشيًا أو قسريًا في كثير من الأحيان.
النسبة المئوية لتوزع المناصب على أبناء الطوائف في سورية: 100% علويون، 0% سنة، 0% دروز، 0% إسماعيليون، 0% مسيحيون.
مما يدحض بشكل قاطع الادعاءات التي تزعم أن الجيش الذي ارتكب المجازر بحق السوريين كان “سنياً” أو “مختلطاً”، ويؤكد أن القمع الدموي كان تنفيذه بيد مؤسسة طائفية مغلقة.
كما أدى هذا الاعتماد المكثف على أبناء الطائفة العلوية إلى استنزاف غير مسبوق في صفوف شباب الطائفة، كما توضح الباحثة تسوركوف:
أدى اعتماد النظام المكثف على أبناء الطائفة العلوية في الوحدات العسكرية والميليشيات التي أُرسلت إلى الجبهات، مع صغر حجم المجتمع العلوي نسبيًا، إلى خسائر غير متناسبة في صفوف شبان الطائفة.
The regime’s heavy reliance on Alawis in the army units and militias dispatched to the front-lines, coupled with the community’s relatively small size, have resulted in disproportionate losses of the sect’s young men.
مما يؤكد أن النظام كان مستعدًا لدفع ثمن بشري باهظ داخل طائفته مقابل الحفاظ على قبضته على السلطة.
بعد هذا الاستعراض الدقيق للمصادر العلمية والبحوث الأكاديمية، يتضح بما لا يدع مجالًا للشك أن الجيش السوري، منذ تأسيسه وحتى انفجار الثورة السورية عام 2011، كان مؤسسة مشوهة طائفيًا، بنيت تدريجيًا لتحويله إلى ذراع أمنية خالصة بيد عائلة الأسد وطائفتها.
لقد أثبتت الوثائق والأرقام أن العلويين سيطروا بشكل شبه كامل على مفاصل القوة العسكرية والأمنية في سوريا، وأن السنة - رغم كونهم يشكلون غالبية الشعب - كانوا إما مقصيين من مواقع التأثير أو مجبرين على أداء أدوار هامشية لا تملك أي استقلال حقيقي.
ومع اندلاع الثورة، وحين انشق الضباط والجنود السنة بأعداد كبيرة، ظهر على السطح ما كان مستترًا لعقود: جيش لم يكن جيش أمة، بل جيش طائفة. جيش قاتل شعبه دفاعًا عن نظام طائفي أقلوي، لا عن وطن.
والمفارقة السوداء أن بعض الأصوات اليوم، سواء عن جهل أو عن سوء نية، تحاول تزوير هذه الحقائق المكشوفة، متهمةً الضحية بأنه كان الجلاد! يتجرأون على الادعاء بأن السنة الذين ذُبحوا وشُردوا على يد هذه المؤسسة الطائفية، كانوا أنفسهم قوام تلك المؤسسة!
إنها محاولة مقيتة لتزوير التاريخ، وسلب المظلومين حتى من حقهم في رواية مأساتهم.
ولكن، وكما أظهرت هذه المقالة بالأدلة، فإن من ارتكب المجازر بحق السوريين كانوا أبناء تلك المنظومة الطائفية التي بناها آل الأسد، وكرسوها عبر عقود، ثم استماتوا في الدفاع عنها حينما طالب السوريون بحريتهم.
وستبقى هذه الحقيقة، مهما حاولوا طمسها، شاهدةً على من ارتكب الجريمة ومن كان الضحية.