إحدى تجليات انقلاب المفاهيم والانحراف في الثقافة العالمية المعاصرة، المتأثرة بفلسفات الغرب بمختلف أشكالها ومساراتها، هو قلب الوسيلة إلى غاية وإلغاء الهدف الأصلي.
فعلى سبيل المثال، إذا كانت الديمقراطية وسيلة لتحقيق العدل، فقد بات الشائع اليوم أن تُطلب الديمقراطية لذاتها، لا بوصفها أداةً لإقامة العدل. وهكذا، حين كان العدل هو الغاية والديمقراطية هي الوسيلة، أضحت الجماهير تطالب بالوسائل وتنزّلها منزلة الغايات، متناسية الهدف الأسمى. ولم يقتصر هذا الانقلاب على الأوساط الفكرية والسياسية فحسب، بل تسرب إلى أدق تفاصيل الحياة اليومية وأتفهها، حتى غدا نمطًا عامًا يوجه سلوك الأفراد والمجتمعات.
ومن الشواهد على ذلك، ما نراه اليوم من انشغال بعض المسلمين، الذين وعوا حقيقة دينهم وغايته، ببناء أجسادهم وتحسين لياقتهم وقوتهم، إذ أن الجسد في الأصل وسيلة، بينما الغاية هي عبادة الله. إلا أننا نجد اليوم – في الغرب كما في أوساط المسلمين وفي الشرق الأقصى – من يبني جسده وينفخ عضلاته حتى يبلغ من القوة ما يمكنه من صرع عشرة رجال، ومع ذلك، إن قيل له: سخِّر هذا الجسد في خدمة هدف سامٍ يتجاوز ذاتك، كالدفاع عن الوطن، أو الجهاد في سبيل الله، أو مكافحة الجريمة، تراه يتراجع ويقول: اهتمامي بجسدي شأنٌ شخصي، أفعله لهواي وحبًّا، وهو مجرد فن، ولا علاقة له بأي غاية أخرى، لا سياسية ولا دينية.
وهذا الانقلاب في المفاهيم لا يقتصر على السياسة والفنون فحسب، بل يمتد إلى أبواب الدين ذاته، حيث نجد من يطلب العلم الشرعي لا تعبُّدًا لله به، ولا امتثالًا لأحكامه، ولا انتفاعًا به في سلوكه وعمله، ولا ابتغاءً لنفع غيره، بل يطلبه لمجرد كونه علمًا شرعيًا، كغاية مستقلة عن التطبيق والعمل.
فتراه يجمع المسائل، ويحفظ المتون، ويتبحر في الفروع، لكنه لا يجعل من علمه سبيلاً لتزكية نفسه، ولا وسيلةً لإصلاح مجتمعه، ولا سلاحًا لنصرة الحق، بل يكدّس المعلومات كما تكدّس السلع، وكأن العلم في ذاته هو الغاية، لا الهداية والإصلاح والتطبيق العملي كما تقتضي الشريعة.
وهذا في حقيقته لا يختلف عن منطق من يبني جسده ولا يستخدمه لشيء نافع، أو من يطلب الديمقراطية لنفسها لا لما تحققه من عدل، فكما أن الجسد وسيلة، والديمقراطية وسيلة، فكذلك العلم وسيلةٌ للوصول إلى خشية الله واتباع أمره ونفع الناس. فإذا انقلبت الوسائل إلى غايات، تعطلت عن مقاصدها، وضاعت الحكمة منها، وانحرف المسار عن غايته الحقيقية.
وأرى – والله أعلم – أن هذا ضربٌ من ضروب العبث، بل لونٌ من الجنون، فالعقل السوي لا يشتري غسالة لمجرد كونها غسالة، بل ليستخدمها لغسل ثيابه، فإن اشتراها بلا غرض سوى امتلاكها، كان ذلك ضربًا من السفه.
وبمقتضى هذا المنطق المعكوس، تصبح الوسائل أدوات فارغة لا تخدم غايات نبيلة، وينقلب الفن من وسيلة لإيصال الرسائل الاجتماعية والإنسانية إلى غاية بحد ذاته، تفرغ من أي معنى سامٍ. وهكذا، يتحول مسرح الوجود – الذي كان عبر التاريخ ميدانًا لصراعات تدور حول الأهداف الكبرى – إلى سيرك يتدافع فيه المهرجون لعرض مهارات لا تسمن ولا تغني من جوع، كحال القرود في مشاهد الاستعراض.
هذا، والله أعلم.