لطالما امتاز التيار العلوي العلماني بنقده الناعم للنظام الأسدي، نقدٍ لم يتجاوز حدود الأستياء من انغلاق الثقافة الفنية الأسدية على نفسها، والاستياء المحدود من الأوضاع المعيشية. لكنه ظلَّ دومًا محكومًا بسقفٍ واضح: لا اقتراب من الأسد وعائلته، ولا مساس بجوهر السلطة.
واليوم، مع تصاعد الأحداث في الساحل السوري، تعالت أصوات هذا التيار، منددةً ومضخمةً لما يحدث، محركةً لجانًا على منصات التواصل الاجتماعي، تقودها نخب الكتّاب العلويين، أولئك الذين احترفوا الكتابة بأقلامٍ مكسورة، وتزييف الثقافة بلغة مستعارة.
لكن، إذا واجهتهم بالسؤال الحتمي: لماذا التزمتم الصمت إزاء الجرائم الطائفية التي ارتكبها النظام؟ سيأتيك الرد الجاهز: “كنا ننتقد النظام ولسنا راضين عنه.” لكن العودة إلى كتاباتهم البائسة خلال فترة حكم آل الأسد ستكشف أن نقدهم لم يكن سوى تذمرٍ من تدني مستوى الدراما الشامية أو أزمة الكهرباء، دون أن يجرؤوا يومًا على توجيه كلمة واحدة مباشرة ضد بشار الأسد أو جرائمه الطائفية بحق أهل السنة.
قبل سقوط الأسد، كان أفراد هذا التيار منشغلين بتقليد الفنون الغربية، وتطوير مهاراتهم الثقافية، خاصة في الموسيقى والمسرح، متجنبين الشعارات الطائفية أو الدعم العلني للنظام. لكن حين تحوّلت الطائفية من خطاب إلى مجازر، وحين أُحرقت مدنٌ وسُحقت عائلاتٌ بأكملها، لم يُحركوا ساكنًا. وكأنهم يعيشون على كوكب آخر.
لم يكن معيارهم في الحكم على الجرائم العدالة أو الأخلاق، بل كان سؤالهم الدائم: “هل الضحية تشاركنا رؤيتنا العلمانية؟” فإن لم يكن كذلك، فليُباد وكأنه لم يكن.
لم نسمع صوتًا واحدًا منهم يتهم نظام الأسد بالطائفية، أو يدعو طائفته إلى التخلي عن النفس الطائفي، سواء في الداخل السوري أو في المهجر، رغم كثرتهم في الخارج.
وعلى النقيض، كان جلّ همهم التغني بالتقدم الحضاري الغربي، وخاصة الليبرالية التي تدعو إلى عدم التدخل في عقائد الأفراد، لكن هذا الشعار لم يُرفع في وجه أبناء عمومتهم في القرى العلوية، بل كان يُستخدم فقط في مواجهة التيارات الإسلامية، وخاصة السنية السلفية.
يدّعي هذا التيار أنه تقدمي حداثي، لكنه في الوقت ذاته يدافع عن محور المقاومة الذي يقوم على أنظمة قمعية دموية (إيران، الأسد، حزب الله)، بينما يسخر من أي محاولة سنية لتأسيس حكم مستقل، حتى لو كان ديمقراطيًا.
لماذا يكون قتل الأطفال في إدلب “ضرورة عسكرية”، لكن أي تهديد يطال العلويين هو “إبادة جماعية”؟
كيف يمكن لمن يدّعي أنه ضد الفاشية أن يدافع عن إيديولوجيا الأسد الفاشية الطائفية التي تحتقر اغلببة الشعب السوري؟
وأيهما أكثر “رجعية”؟ السلفية التي يعادونها، أم الطائفية العلوية التي يسكتون عنها ويبررونها؟
إذا كانت مشكلتهم مع الأنظمة الدينية، لماذا لا يعترضون على الطائفية الإيرانية التي تُحكم بولاية الفقيه، بينما كل انتقاداتهم موجهة حصريًا للإسلاميين السنّة؟
إن دعمهم لـ”محور المقاومة” لم يكن إلا غطاءً لولائهم الطائفي، وليس موقفًا تحرريًا كما يدّعون
- نفاق النخبوية والانفصال عن الواقع
هذا التيار يروج لنفسه كنخبة ثقافية ليبرالية، لكنه في الواقع مجرد دائرة مغلقة من المثقفين الورقيين الذين يكررون شعارات جوفاء عن العقلانية والتنوير دون أي تطبيق حقيقي لهذه المبادئ.
كيف لشخص أن يكون “نخبويًا” وهو خائف من انتقاد النظام بشكل مباشر؟ وكيف يدّعي الحداثة وهو لا يستطيع الاعتراف بأن الأسد دكتاتور طائفي بامتياز؟
عندما تكون الحرية والعدالة وحقوق الإنسان مجرد زينة خطابية تستخدم فقط عندما تناسب الطائفة، فهذه ليست نخبوية، بل نفاق مفضوح.
- الوطنية الانتقائية: صمتٌ عن المجازر، وصراخٌ عند المساس بالطائفة
أحد أكبر ادعاءات هذا التيار أنه ينظر إلى الشعب السوري بعين الوطنية، لا بعين الطائفية. لكن الوطنية، كما يبدو، لا تستيقظ إلا عندما يُهدد الخطر أبناء الطائفة.
أما حين يكون القتل طائفيًا ضد الأكثرية السنية، تجدهم منشغلين بمستوى الإنتاج التلفزيوني، أو بأزمة الكهرباء والمازوت.
وفي الوقت الذي كان فيه أبناء عمومتهم من التيارين العلوي المتدين والبعثي يمارسون القتل والتعذيب والتهجير، ويقصفون المدن، وينهبون الممتلكات، ويتاجرون بالأعضاء البشرية والمخدرات، وخاصة الكبتاغون، كان التيار العلوي العلماني يختبئ خلف قناع النخبوية، متجنبًا أي إدانة حقيقية لهذه الجرائم.
هؤلاء يتغنون بالليبرالية والتعددية، لكنهم لم يجرؤوا يومًا على انتقاد القوانين التي تمنح امتيازات دينية للعلويين على حساب المسلمين السنة في سوريا.
يهاجمون الحركات السلفية لأنها “تكفر الآخرين”، لكنهم يتجاهلون أن النظام العلوي مارس الإقصاء والتكفير ضد الأكثرية لعقود، ووصل إلى حد اعتبار السنّة “رعايا درجة ثانية”.
عندما يحكم الإسلاميون، يصبح هذا “شمولية دينية”، لكن عندما يُفرض حكم طائفي علوي بامتياز، يصبح “دولة علمانية مستقرة”.
إذا كانت مشكلتهم مع الطائفية، فلماذا لم نسمع منهم أي اعتراض على التمييز الطائفي الذي مارسه النظام منذ عقود؟ لماذا يكون تدخّل الدين في السياسة خطيرًا فقط عندما يكون سنّيًا، لكنه يصبح “ضرورة لاستقرار الدولة” عندما يكون علوياً؟
هذا التيار الذي يرفع شعار التعددية لم يكن يومًا معارضًا للطائفية، بل معارضًا فقط للطائفية التي لا تخدمه.
- إدانة الثورة السورية مقابل الصمت عن الطغيان
هؤلاء لا يترددون في التهجم على الثورة السورية، واتهامها بالظلامية والطائفية، لكنهم في الوقت ذاته لم يجرؤوا على قول كلمة واحدة عن طائفية الأسد، وجرائم ميليشياته!
كيف يمكن لمن يرفض الثورة على الطاغية أن يدّعي التنوير والتحرر؟
الثورة السورية، رغم أخطائها، كانت حركة شعبية ضد دكتاتور دموي، بينما هؤلاء كانوا وما زالوا أدوات تبرير وسكوت على القمع.
إن كانوا يكرهون الإسلاميين في الثورة، فلماذا لم يدعموا الحركات الليبرالية في الثورة؟ الجواب بسيط: لأنهم لم يريدوا الثورة أصلًا، ولم يريدوا أي تغيير حقيقي.
- ازدواجية خطابهم في الخارج مقابل الداخل
في المهجر، يتحدثون عن الديمقراطية، حقوق الإنسان، الحريات الفردية، لكنهم في الداخل لم يفتحوا أفواههم يومًا ضد اعتقالات النظام أو التعذيب أو الجرائم الطائفية.
لماذا يحتاج العلويون إلى اللجوء إلى أوروبا ليكتشفوا فجأة أن بشار الأسد قاتل؟
لو كانوا صادقين في معارضتهم للنظام، لماذا لم يهربوا قبل أن تسوء أحوال الطائفة العلوية؟
موقفهم لم يكن قائمًا على المبادئ، بل على تغيير موازين القوى، فهم مع النظام طالما كان قويًا، وضده فقط عندما بدأ بالضعف.
بئست الوطنية التي لا تُسمع إلا حين تسوء أوضاعكم المعيشية، بينما تبتلعون ألسنتكم حين يكون الضحايا من أهل السنة.
• أين كانت أقلامكم حين امتلأ سجن صيدنايا؟
• أين كانت كلماتكم المنمقة عن باب عمرو وباب خالد؟
• أين هي اقتباسات فوكو وفولتير وكافكا ودوستويفسكي وبرتراند راسل عند حصار الغوطة وقصفها بالكيماوي؟
• ماذا كانت تخطّ أقلامكم عندما كان أبناء قراكم يسمّون البراميل المتفجرة بالبراميل المقدسة؟
• أي منتدى ثقافي كنتم تحضرون عندما هُدِّمت الجوامع وشُتم الصحابة والرسول في قراكم؟
• أنغامكم الليبرالية المستوردة، لماذا لم تعزفوها عندما كان أبناء قراكم يسألون معتقلي أهل السنة: “مين ربك ولا؟ ربك بشار ولا؟”
• لماذا كان موقفكم من الاعتقالات العشوائية والتعذيب صامتًا، بينما عندما بدأ النظام يُجند أبناء الطائفة العلوية في حروب خاسرة، بدأتم بالصراخ والاستغاثة؟
• لماذا لم تكونوا معارضين للنظام عندما كانت طائفتكم في مأمن، وأصبحتم معارضين فقط عندما بدأ النظام بالتضحية بكم؟
• هل كانت قضيتكم يومًا “حرية وعدالة”، أم مجرد “مصلحة طائفية” تتغير حسب الظروف؟
لقد كنتم منشغولين بالكهرباء والمازوت والمسلسلات السورية والندوات الموسيقية، مقلدين تراث الشلة الباريسية الماسونية، فهذه كانت نشوتكم. ويا لتفاهة نشوتكم البائسة!
- الخاتمة: السؤال الذي لا مهرب منه
السؤال الأهم، الموجه للتيار العلوي العلماني، أصحاب الأقلام الفارغة والخطابات الزائفة:
بما أنكم صمتم عن انتهاكات أبناء طائفتكم، فلِمَ تطالبونني بالحديث عن انتهاكات أبناء طائفتي، التي جاءت كردٍّ على خيانة أبناء طائفتكم؟