
لطالما تغنّى الفكر الحديث بمفاهيم مثل “الحياد”، و”الموضوعية”، و”القراءة العلمية للتاريخ”، و”العقلانية الخالية من التحيّزات الدينية أو الأيديولوجية”.
وقد يبدو هذا الخطاب براقًا ومُريحًا لكثير من المثقفين المعاصرين، لأنه يمنحهم وهْمًا بأنهم يتحدثون من موقع أعلى من الانتماءات، وأسمى من التحزّب.
لكن، عند التفكيك المعرفي والفلسفي الدقيق، يتبيّن أن هذا الحياد المزعوم ليس حيادًا، بل هو انحياز جوهري لمنظومة فكرية متكاملة.
بل هو — في جوهره — دين ميتافيزيقي جديد، يُقصي الغيب والوحي، ويؤلّه الإنسان والعالم، ويُخفي ذلك خلف شعارات “العقل” و”العلم” و”الموضوعية”.
⸻
المحور الأول: الحياد المزعوم — من أين يأتي؟
حين يقول أحدهم:
“أنا أقرأ التاريخ أو الأخلاق أو السياسة من منظور حيادي”،
فهو في الحقيقة يقول، دون أن يدري:
“أنا أنطلق من منظومة معرفية ترفض الوحي، وتحتكم فقط لما يُقاس ويُلاحظ ويُفسَّر من داخل العالم.”
هذا النوع من الخطاب لا يأتي من فراغ، ولا يُمثّل فراغًا في الانتماء، بل هو تعبير صريح عن انتماء ضمني إلى ما نسميه:
العلمانية المعرفية: أي حصر أدوات الفهم في العالم المادي التجريبي فقط، ونفي أي مصدر خارجي (غيب، وحي، إله).
المحور الثاني: ما هي “العلمانية المعرفية”؟
العلمانية ليست فقط فصل الدين عن الدولة، بل — في عمقها الفلسفي — هي:
فصل الدين عن المعنى، والتفسير، والمعرفة.
إنها ليست فقط بنية سياسية أو إدارية، بل منظومة تفسيرية كاملة، تُقصي الغيب، وتعتبر أن الكون يُفهم من داخله فقط، دون حاجة إلى خالق أو وحي أو مطلق ميتافيزيقي.
• فالعالم عندها مكتفٍ بذاته.
• والإنسان قادر وحده على فهمه وتنظيمه.
• والحقيقة تنبع من التجربة، لا من الوحي.
المحور الثالث: العامل الجامع بين كل التيارات التي تدّعي الحياد
عند تفكيك البُنية العميقة لكل من:
• الليبرالية
• العلمانية (بصيغها السياسية أو الفكرية)
• الكمالية الأتاتوركية
• الوضعية العلمية
• اللاأدرية
• بعض تيارات ما بعد الحداثة
نجد أنها جميعًا — رغم اختلافاتها السطحية — تتفق على نقطة واحدة مركزية:
رفض مركزية الوحي كمصدر للمعرفة والتشريع، واعتماد الإنسان والعالم كمراجع مكتفية بذاتها.
وتشترك كلها في:
• تقديس العقل البشري بوصفه الحكم النهائي.
• إقصاء أي تفسيرات غيبية.
• تحييد الدين عن الحقول المعرفية.
• محاولة تفسير كل شيء — من الإنسان إلى التاريخ — من داخل النظام المادي فقط.
مثال تطبيقي واقعي:
في الأكاديميا المعاصرة، يُقصى الوحي من تحليل أي ظاهرة ثقافية أو تاريخية باسم “الحياد العلمي”، لكن في المقابل تُفرض سرديات بديلة ملوّنة بالأيديولوجيا الليبرالية أو النسوية أو الإنسانية العلمانية.
ففي تحليل الدولة الإسلامية أو تاريخ الحروب أو مكانة المرأة في المجتمع، يُمنع الاحتكام للقرآن، بينما يُسمح بالاستناد إلى فرويد، أو فوكو، أو داروين، باعتبارهم “غير متحيّزين”، رغم أنهم يحملون رؤى ميتافيزيقية حاسمة حول الإنسان والغاية والمعنى.
المحور الرابع: أزمة تعريف “المادة” وانكشاف التناقض
المنظومة الوضعية والعلمانية لطالما أسست فهمها للواقع على أن “المادة هي ما يُدرك بالحواس”.
لكن هذه الرؤية انهارت تمامًا مع تطور الفيزياء والكوانتوم وعلوم المجال والجاذبية.
أمثلة واضحة:
• الضوء: لا يُمسك، لكنه مادي.
• الجاذبية: لا تُلمس، لكن تُقاس.
• الجسيمات الافتراضية: لا تُرى، لكن تُستنتج رياضيًا.
• الطاقة المظلمة: لا وجود محسوس لها، لكنها تُستخدم لتفسير حركة الكون.
وهكذا توسّع المفهوم ليصبح:
“كل ما يمكن رصده أو اشتقاق أثره تجريبيًا أو رياضيًا” يُعد مادة.
النتيجة:
• أدخلت العلمانية غيبها الخاص، لا عن طريق الدين، بل عن طريق “النموذج الرياضي”.
• لم تعد مادية خالصة، بل ميتافيزيقية مقنّعة.
“العلماني المعرفي” — من حيث لا يدري — يُؤمن بغيبٍ من نوع خاص، ويضع مسلّماته الميتافيزيقية فوق التجريب، تمامًا كما يفعل المؤمن… لكنه يدّعي الحياد.
وهنا تتجلّى المفارقة الجوهرية:
العلماني مادي عند الحاجة، وميتافيزيقي عند الضرورة.
حين تَخدمه حدود المادة، يُغلق الباب أمام الغيب. وحين تُضيّق المادة أفقه التفسيري، يلجأ إلى ما لا يُلمس ولا يُرَى، ويُدخله قسرًا تحت اسم “الطبيعة” أو “النموذج الرياضي”.
وهكذا، دون أن يعترف، يعيش بعقيدتين متناقضتين: التجريب الصلب حين يناقش المؤمن، والتأويل المجرد حين تعجز أدواته.
نقد داخلي من داخل المنظومة نفسها:
حتى داخل الفكر العلمي الطبيعي المعاصر، بدأت تظهر حركات نقدية من الداخل، مثل:
• ما بعد الوضعية، التي تنتقد استبعاد القيم والوعي.
• والنقد العلموي، الذي يرى أن النموذج الطبيعي غير قادر على تفسير الوعي البشري أو المعنى أو القيم الأخلاقية، بل ويُطالب بفتح الباب مجددًا للفلسفة، بل وحتى للروح.
المحور الخامس: حين يصبح الحياد دينًا
كل ما سبق يدل على أن الحياد المعرفي ليس حيادًا، بل هو:
دين معرفي خفي يتبنّى رؤية ميتافيزيقية معينة للكون (نفي الغيب)، ويؤلّه الإنسان والعقل والتجربة.
وبالتالي:
• له أصول إيمانية (رفض الوحي).
• وله مرجعيات مقدسة (العقل، التجريب، النفعية).
• وله كهنوت (الأكاديميا، الإعلام، المنظمات).
• وله طقوس (الحياد الظاهري، الاستهزاء بالغيب، تقديس “النموذج”).
وهو، من حيث لا يصرّح، دين مضاد للدين، لكنه يتسلل عبر بوابة “العقل” و”العلم” و”الحياد”.
الخاتمة
الحياد المزعوم ليس إلا قناعًا لسلطة تفسيرية معاصرة تُريد أن تحتكر تفسير الإنسان والعالم والتاريخ بعيدًا عن الوحي.
وما لم نُدرك أن هذا الحياد موقف ميتافيزيقي مغلّف، لا حقيقة علمية نزيهة، سنبقى أسرى سرديات الآخر، نظن أنفسنا عقلانيين، بينما نحن نُردّد دينًا لم نختره، ولم نعرف حتى أنه دين.
إننا لا نواجه مجرد تيارات فكرية، بل نواجه إيمانًا مموّهًا، يُقصي إيماننا الأصيل، ثم يزعم الموضوعية.
ولا يكون الخروج من هذا المأزق إلا باستعادة الوحي كعدسة تفسيرية شاملة، يُقاس بها التاريخ والعقل، لا يُقصى لأجلهما.
فالوحي لا يقيّد العقل، بل يُحرّره من خداع المرايا الحديثة، ويُعيده إلى موضعه الصحيح: أداةٌ لفهم الكون… لا إلهٌ يُحتكم إليه وحده.